الزواج مودة وليس حب فقط



من دلائل عظمة القرآن و إعجازه أنه حينما ذكر الزواج لم يذكر الحب .. و إنما ذكر المودة و الرحمة و السكن

سكن النفوس بعضها إلى بعض

و راحة النفوس بعضها إلى بعض

و قيام الرحمة و ليس الحب .. و المودة و ليس الشهوة

قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً …} [الروم : 21]

إنها الرحمة و المودة .. مفتاح البيوت

و الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة .. و الحب لا يشتمل على الرحمة ، بل يكاد بالشهوة أن ينقلب عدوانا .

و الرحمة أعمق من الحب و أصفى و أطهر

و الرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة ، ففيها الحب ، و فيها التضحية ، و فيها إنكار الذات ، و فيها التسامح ، و فيها العطف ، و فيها العفو ، و فيها الكرم

و كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية

و قليل منا هم القادرون على الرحمة

و بين ألف حبيبة هناك واحدة يمكن أن ترحم ، و الباقي طالبات هوى و نشوة و لذة

و لذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق .. يذكرنا عند الزواج بالرحمة و المودة و السكن .. و لم يذكر كلمة واحدة عن الحب ، محطماً بذلك صنم العصر و معبوده الأول ، كما حطم أصنام الكعبة من قديم

و الذين خبروا الحياة و باشروا حلوها و مُرّها ، و تمرسوا بالنساء يعرفون مدى عمق و أصالة و صدق هذه الكلمات المنزلة

و ليس في هذه الكلمات مصادرة للحب ، أو إلغاء للشهوة و إنما هي توكيد ، و بيان بأن ممارسة الحب و الشهوة بدون إطار من الرحمة و المودة و الشرعية هو عبث لابد أن ينتهي إلى الإحباط

و الحيوانات تمارس الحب و الشهوة و تتبادل الغزل

و إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة و الرحمة و الرأفة ، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته ، فيصوم و هو جائع و يتعفف و هو مشتاق

و الرحمة ليست ضعفاً و إنما هي غاية القوة ، لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية

الرحمة هي النور و الشهوة هي النار

و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء ، و هم الوجهاء حقاً

و القسوة جبن و الرحمة شجاعة

و لا يؤتَى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل

و لا يشتغل بالانتقام و التنكيل إلا أهل الصغار و الخسة و الوضاعة

و الرحمة هي خاتم الجنة على جباه السعداء الموعودين من أهل الأرض .. تعرفهم بسيماهم و سمتهم و وضاءتهم .

و علامة الرحيم هي الهدوء و السكينة و السماحة ، و رحابة الصدر ، و الحلم و الوداعة و الصبر و التريث ، و مراجعة النفس قبل الاندفاع في ردود الأفعال ، و عدم التهالك على الحظوظ العاجلة و المنافع الشخصية ، و التنزه عن الغل و ضبط الشهوة ، و طول التفكير و حب الصمت و الإئتناس بالخلوة و عدم الوحشة من التوحد ، لأن الرحيم له من داخله نور يؤنسه ، و لأنه في حوار دائم مع الحق ، و في بسطة دائمة مع الخلق

و الرحماء قليلون ، و هم أركان الدنيا و أوتادها التي يحفظ بها الله الأرض و من عليها

و لا تقوم القيامة إلا حينما تنفد الرحمة من القلوب ، و يتفشى الغلّ ، و تسود المادية الغليظة ، و تنفرد الشهوات بمصير الناس ، فينهار بنيان الأرض و تتهدم هياكلها من القواعد

اللهم إني أسألك رحمة ..

اللهم إني أسألك مودة تدوم ..

اللهم إني أسألك سكنا عطوفا و قلباً طيباً ..

اللهم لا رحمة إلا بك و منك و إليك ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق